يوليو 18, 2022
باريس- أعلن وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، أثناء زيارته للمناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة المدعومة من أنقرة، شمال غرب سوريا، في حزيران/ يونيو 2022، عن خطة تركية لبناء 240 ألف وحدة سكنية في المنطقة بشكل عاجل، لتأمين احتياجات النازحين السوريين واللاجئين العائدين.
في تصريح صويلو إشارة إلى مدى إلحاح أنقرة على تنفيذ سياسة بناء المنازل في سوريا، إذ أنشأت المنظمات غير الحكومية التركية والوكالات المعنية بالاستثمار والتطوير عشرات آلاف الوحدات السكنية الإسمنتية في شمال غرب سوريا، على مدى الثلاث سنوات الماضية، تحت عنوان إرساء الاستقرار عبر تحسين الوضع الإنساني وحث السوريين على البقاء.
لكن، في الوقت الذي تستمر فيه تركيا بالتوسع في البناء شمال سوريا، استجابةً للمخاوف السياسية الداخلية، وتحقيقاً للأهداف الإنسانية المُصرح بها، لا تنفك منظمات حقوق الإنسان عن انتقاد هذا التوسع والتشكيك بمدى شرعيته. وهنا تبرز مجموعة من التساؤلات، من قبيل: لماذا تبني تركيا الوحدات السكنية شمال سوريا؟، ومن يمول هذه المشاريع؟ ومن الذين تُنتهك حقوقهم جراء ذلك؟
ما دوافع تركيا؟
في السنوات الأخيرة، تقع مساحات واسعة شمال سوريا، تحت نفوذ أنقرة، بفعل ثلاث حملات عسكرية حدودية بمشاركة الجيش الوطني السوري (المعارض) المدعوم منها، الأولى: عملية درع الفرات، التي استهدفت تنظيم “داعش” في ريف حلب الشمالي، عام 2016، والثانية: عملية غصن الزيتون، عام 2018، وآخرها: نبع السلام، عام 2019، حيث أطلقت العمليتين الأخيرتين ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي يقودها الأكراد في شمال سوريا، وهو تحالف يضم وحدات حماية الشعب الكردية (YPG).
وترتبط “YPG” وجناحها المدني المتمثل في حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) بعلاقات مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، العدو التاريخي لأنقرة.
تهدف العمليات العسكرية، بحسب التصريحات التركية، إلى طرد القوى العسكرية السورية الكردية عن حدودها الجنوبية، وجعل شمال سوريا “قطاعاً آمناً”، لصالح الجيش الوطني المدعوم من أنقرة، الذي يسيطر على المنطقة، فيما تتولى المجالس المحلية السورية المعارضة تقديم الخدمات الأساسية للسكان المدنيين، بالتعاون مع رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد)، المعنية بتنسيق عمليات الإغاثة التركية.
وفي حين يرجع التدخل العسكري التركي شمال سوريا إلى مخاوف أمنية وطنية، يُعزى التدخل الإنساني إلى “إرساء الاستقرار” في المنطقة وسط تزايد المخاوف بشأن ارتفاع أعداد النازحين السوريين على حدودها، وبالتالي استمرار محاولات عبور الحدود إلى تركيا التي تستضيف نحو 3.6 مليون لاجئ سوري.
يندرج بناء المنازل في إطار استراتيجية “إرساء الاستقرار” عبر إتمام بناء أكثر من 57 ألف منزلٍ في محافظة إدلب بتمويل تركي، الذي بدأ العمل بها منذ عام 2019، وهي من أصل 77 ألف منزلٍ من المخطط إعمارها مبدئياً، وفق ما أعلن عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أيار/ مايو 2022. ومن ثم الخطط التي كشفت عنها السلطات التركية لاحقاً، المتمثلة ببناء 240 ألف منزل إضافي، في 13 بلدة أو مدينة شمال غرب سوريا، بما في ذلك جرابلس والباب وعفرين وإدلب وتل أبيض ورأس العين.
لأجل من هذه المشاريع؟
حتى هذا التاريخ، يُشاع أنّ مشاريع بناء المنازل في شمال غرب سوريا خُصصت لإيواء 2.8 مليون نازح سوري في محافظتي إدلب وحلب، الواقعتين تحت سيطرة فصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام. وترمي هذه المشاريع بحسب ما هو مُعلن إلى تحسين الظروف المعيشية للنازحين، بنقل آلاف الأشخاص الذين يعيشون في مخيمات عشوائية إلى مساكن إسمنتية.
تُطلِق الوحدات السكنية الإضافية الـ 240 ألف، المُعلن عنها، يد تركيا في سوريا بشكل أكبر، بما يتماشى مع سياستها، وتأتي هذه الخطوة بالتوازي مع خطة “العودة الطوعية” على نطاقٍ أوسع، إذ تشمل إعادة أكثر من مليون سوري إلى مناطق النفوذ التركي في سوريا خلال السنوات المقبلة.
وتزامن الحديث عن عودة اللاجئين السوريين في وقت يستخدم السياسيون الأتراك ملف اللاجئين، قبل موعد الانتخابات التركية العامة المزمع إجراؤها في حزيران/ يونيو 2023، وقد زاد في الأشهر الأخيرة فوبيا الأجانب بشدة، على خلفية تصاعد خطاب الكراهية ضد السوريين المتهمين بأنهم سبب الأزمة الاقتصادية التي تجتاح تركيا.
سياسة مثيرة للجدل
يرى أنصار الخطة التركية لبناء وحدات سكنية إسمنتية شمال سوريا أنّ بناء المنازل “خطوة حاسمة” لاستقرار المُهجرين واللاجئين السوريين بتأمين ظروف معيشية أفضل.
في دراسة تحليلية أجراها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، في أيار/مايو 2022، سلطّ الصحفي والباحث السوري، عمار المصارع، الضوء على مأساة المُهجرين في شمال غرب سوريا، إذ يعيش بعضهم في الخيام منذ عشرة سنين. بالنسبة لأولئك، لم تعد الحلول الطارئة المؤقتة التي تؤمنها الجهات العاملة في المجال الإنساني كافية: السوريون يحتاجون إلى منازل دائمة تأويهم، وخطط للعودة، إضافة إلى الوصول الدائم للخدمات من قبيل الصحة أو التعليم، وفق ما يحاجج المصارع.
غير أنّ إعلان أنقرة الأخير، أثار مخاوف منظمات حقوق الإنسان، التي وثقت الترحيل القسري لعشرات آلاف السوريين من تركيا بين عامي 2019 و2021، وهم يخشون أن تسوّغ المشاريع السكنية التركية مزيداً من عمليات الإعادة القسرية.
في بعض أجزاء شمال غرب سوريا، يتوجس مراقبون من أن استراتيجية النقل الجماعي التي تنتهجها تركيا ستغير التوازن الديمغرافي في المنطقة، وستؤثر عليه تأثيراً فادحاً، وتؤصِّل تجريد المجتمعات اليزيدية والكردية من ممتلكاتها، التي كانت عرضةً للسلب “الممنهج” ومصادرة الأملاك، على يد الفصائل المدعومة من تركيا.
“تقوم الخطة التركية لإعادة مليون لاجئ سوري على توطينهم في مناطق النفوذ التركي شمال سوريا، وهذه المحافظات السورية لا تعدّ موطناً لكثير من السوريين”، كما كتب مراقبون محليون عاملون في مجال حقوق الإنسان في بيانٍ موجه للجمعية العامة للأمم المتحدة، في أيار/ مايو، في المقابل “العديد من هذه المناطق كانت موطناً تاريخياً لمجتمعاتٍ ذات غالبية كردية هُجّرت هي من أراضيها” كما جاء في البيان.
ومما يُعمِّق هذه المخاوف في الواقع أن عدداً كبيراً من هذه الوحدات السكنية القائمة حالياً، التي بنيت تحت ستار المساعدات الإنسانية، انتفعت منها فصائل عسكرية ونخبة من المحليين، وليس السكان المدنيون.
واعتبرت منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة (STJ)، التي تعنى بمراقبة حقوق الإنسان، في تقريرهاالصادر في حزيران/ يونيو الماضي، التجمعات السكنية التي تشيّدها تركيا شمال سوريا “مخططات هندسة ديموغرافية”. ففي عفرين التي كانت تاريخياً موطناً لنسبة كبيرة من الأكراد، بُنيت عدة مستوطنات للنازحين، فيما اضطر السكان الأصليون الفرار الجماعي منها عقب عملية غصن الزيتون، في كانون الثاني/ يناير 2018، خوفاً من اضطهاد الفصائل التي تساندها تركيا.
وخصصت معظم “المستوطنات” في عفرين “لإسكان مقاتلي الجيش الوطني السوري المعارض وعائلاتهم” خلال إجراءات مبهمة، وفقاً لـ”سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، مشيرة إلى أن المقاتلين وعائلاتهم يشكلون نحو 75% من المستفيدين.
من يموّل وينفذ هذه المشاريع؟
في السنوات الأخيرة، بنت منظمات إغاثية تركية وسورية، آلاف الوحدات السكنية للمهجرين بالتنسيق مع رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد).
تعهدت منظمات عدة ببناء بعض هذه المستوطنات منها: جمعية أوزغور دير ومقرها تركيا، وجمعية فتحية دير، ومنظمة إحسان للإغاثة والتنمية، وهيئة الإغاثة الإنسانية (IHH) التي أنشأت أكثر من 25 ألف وحدة سكنية، في شمال سوريا منذ عام 2019، كما تواردت الأنباء عن تمويل المنظمة ذاتها لجزءٍ من المستوطنات التي تُبنى في عفرين، وفقاً لـ”سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”.
رغم عدم وجود بيانات علنية عن هذه المشاريع والمانحين، لكن يبدو أنّ إدارة الكوارث والطوارئ موّلتبعضها، فميا مولت جهات مانخة خاصة البعض الآخر، وهي في عمومها جمعيات خيرية إسلامية دينية مثل: جمعية الرحمة العالمية ومقرها الكويت، أو منظمة الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية (DITIB)، ومقرها ألمانيا وتربطها علاقات قوية مع تركيا. حاولت “سوريا على طول” التواصل مع إدارة آفاد للحصول على معلومات حول مشاريعها السكنية لكنها لم تتلق رداً حتى نشر هذا التقرير.
وفي هذا السياق، أكدّ صويلو في مقابلة مع قناة TGRT Haber التركية، في 5 أيار/ مايو الماضي ، على أن المشروع القادم لبناء 240 ألف وحدة سكنية، لن يُموّل من جيوب الأتراك، وإنما “ستموله المنظمات الإنسانية الدولية بالكامل”، دون أن يدلي بتفاصيل أكثر.
شرعية الوحدات السكنية
في الحديث عن مشاريع الإسكان التركية شمال سوريا، يجب مناقشة شرعيتها على مستويين، الأول: فيما إذا كانت تتوافق مع قوانين الملكية في سوريا، والثاني: فيما إذا كانت تتوافق مع القانون الدولي الذي يحكم الالتزامات التي ينبغي أن تتعهد بها السلطة “المحتلة” (والمتمثلة هنا بتركيا) في المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
يوضح السؤال الأول مدى صعوبة تنفيذ أعمال بناء وبُنى تحتية دائمة في شمال سوريا، إذ “فاقمت عمليات التهجير الجارية على نطاق واسع وكذلك الفراغ القانوني صعوبات إثبات الملكية أو التحقق من الادعاءات المطالِبة بها من دون سند قانوني مُسجّل يُوّثق ملكية العقارات في أغلب الحالات”، وفقاً لتقريرٍ إنساني صادرفي عام 2020.
منذ بدء الحرب، هُجّر ملايين السوريين، إلى شمال غرب سوريا غالباً، ودُمِرّت أملاكهم أو تم الاستيلاء عليها، وجرت تعديلات على قوانين الملكية في عدة أجزاء من البلاد لتواكب مصالح من يستحوذ عليها. لم يعد في سوريا نظام قانوني شفاف وموحد ومعترف به بالإجماع لتسجيل وتوثيق عمليات نقل الملكية، كما أن شرعية “السلطات المحلية” التي انبثقت في أجزاء مختلفة من البلاد هي ذاتها على المحك.
تسعى المنظمات الحكومية ووكالات الإغاثة انطلاقاً من التزامها بمبدأ “عدم إلحاق الضرر” للتحقق من أنّ المشاريع التي تنفذها لا تؤصل عمليات نزع الملكية والتهجير القسري. عملاً بهذا المبدأ، نأت عدة منظمات دولية عن مشاريع بناء المنازل، وفضّلت إجراء تحسينات هيكلية للمخيمات غير الرسمية المنشأة على أراض لا يمكن التحقق من ملكيتها، وكذلك امتنعت جهات مانحة عن دعم أعمالِ البناء على نطاق واسع في شمال غرب سوريا.
يكتنف مشاريع البناء التي تدعمها تركيا المخاوف ذاتها، وفقاً للنشرة الاقتصادية المتخصصة “سيريا ريبورت”، هناك التباس في كثيرٍ من الحالات، في تحديد أحقية المنظمات غير الحكومية الأجنبية بشراء وامتلاك الأرض التي سيبنون عليها أم لا. وللالتفاف على هذا الأمر، تُنفذ المشاريع على أراضٍ ذات ملكية عامة أو أراضي وقف، ويُمنح المستفيدون غالباً حق الانتفاع بهذه العقارات لمدة تتراوح من خمس إلى عشر سنوات، دون امتلاكها.
ورغم أن هذا النظام يتسق مع ما ورد في قانون الملكية السوري، إلا أنّه لا ينهي جذرياً المسائل المتمحورة حول أصل ملكية الأراضي “العامة”، التي قد تكون لمالكين جُردوا منها، أو أنّ أصحابها غائبون، وليس للسلطات المحلية شرعية استملاكها.
يشير السؤال الثاني إلى مسؤولية تركيا بصفتها “سلطة محتلة” لأجزاء من شمال سوريا، عن حماية حقوق السكان المحليين بموجب اتفاقية جنيف الرابعة.
من حيث المبدأ، يمكن مُساءلة الدولة التركية عن انتهاكات القانون الدولي المرتكبة في الأراضي التي تسيطر عليها، بما في ذلك مصادرة الممتلكات تعسفياً والنهب والسياسات الرامية إلى تهجير مجموعات معينة. وعليه، فإن هذه “المستوطنات” القائمة على مثل هذه الانتهاكات أو تُسهم فيها كما هو الحال في عفرين هي غير شرعية، وفقاً لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”.
تم نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية سلام الأمين